‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة في كتاب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة في كتاب. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 7 يونيو 2010

أمراض المشاهير


في نهايات القرن الماضي، أصدر البريطاني بول جونسون كتابا حمل عنوان: "المثقفون" وفيه استعرض ما سمّاه بـ"أمراض المشاهير" من الأدباء والشعراء والمفكرين. وجميع هؤلاء لعبوا دورا رياديا في تطور الثقافة الإنسانية. ومن خلال كتاباتهم ومواقفهم، كانوا من المدافعين المتحمسين عن التقدم، وعن الحرية، وعن العدالة، وعن المساواة بين البشر. وعن الأخوة بين الشعوب والأمم. مع ذلك لم تخل حياتهم من بعض الفضائح والمساوئ وحب الذات، وارتكاب الحماقات.

بقلم/ حسونة المصباحي نقلا عن/ العرب أون لاين

وكان الفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو أول من نالته السهام. فقد اتهمه بول جونسون بالأنانية المفرطة، وبالإحساس بالتفوق على الآخرين. واعتمد في اتهامه هذا، على جملة لروسو كتب فيها يقول:"كيف يمكن أن يكون بؤسي وبؤسك سواء بسواء. إن بؤسي لا مثيل له، ولم يسمع أحد بمثله منذ بدء الخليقة". ويعتقد بول جونسون أن روسو كان"يحمل ضغائن كثيرة، وكان مخادعا باستمراره في حملها". وهو ما لاحظه كثيرون حسب رأيه. من ذلك مثلا أن صديقا سابقا له، كتب يقول مُنددا بسلوكه السيئ تجاه أقرب الناس إليه: "كيف نصدّق أن صديق البشرية " -يعني روسو- " لم يعد صديقا لأحد، أو أنه نادرا ما يكون كذلك؟". وقد ردّ عليه روسو قائلا:"أنا صديق البشرية، والناس موجودون في كل مكان. وصديق الحقيقة يصادف بشرا حاقدين أيضا في كل مكان، وأنا لست في حاجة إلى أن أذهب بعيدا".
ويقدم لنا بول جونسون جان جاك روسو وكأنه شخص لا يمكن أن يصادق، ولا يمكن أن يتمتع بثقة أحد. فهو مريض بجنون العظمة. وهو يحب أن تكون حياته كلها "دعة وتطفّل". كما أنه "كان كثير الشجار، وبعنف شديد – مع كل الذين تعاملوا معه تقريبا، خاصة الأصدقاء منهم". ولم يكن من الممكن استعراض الخصومات المتكررة والمؤلمة التي كان يفتعلها لأنه كان"مريضا عقليا."
ويسخر بول جونسون من كارل ماركس ويقول إنه كان"جاهلا بعالم المال والصناعة طوال حياته" وأن جميع معارفه في هذا المجال والتي قدمها للناس كما لو أنها من ابتكاره الخاص، استقاها في الحقيقة من خاله الذي كان رجل أعمال ناجحا يعيش في هولندا، ومن صديقه انجلز الذي كان عليما حقا بأمور المال والصناعة. ويكتب بول جونسون قائلا:" إن كتاب كارل ماركس "رأس المال"، ذلك النصب التذكاري الذي تمحورت حوله حياته كباحث، لا يجب النظر إليه كبحث علمي عن طبيعة العملية الاقتصادية التي حاول أن يصفها، وإنما كتدريب في الفلسفة الأخلاقية ".." إنه موعظة ضخمة وغير متماسكة في معظمها، وهجوم على العملية الصناعية ومبدأ الملكية من قبل رجل يكنّ لهما كراهية شديدة متوهمة ولا مبرر لها".
ويواصل بول جونسون كلامه عن كتاب "رأس المال" قائلا: "والذي نخرج به من قراءة "رأس المال" هو فشل ماركس الذريع في فهم الرأسمالية. فشل تحديدا لأنه لم يكن علميا: لم يستطع أن يتقصّى الحقائق بنفسه، أو أن يستخدم الحقائق التي تقصاها الآخرون بموضوعية. ومن البداية إلى النهاية كان عمله كله، وليس "رأس المال" فقط، يعكس إهمالا للحقيقة ولا مبالاة تصل أحيانا إلى درجة الاحتقار. وهذا هو السبب الرئيسي في عجز الماركسية كنظام عن تحقيق النتائج التي تدعيها. ووصفها بـ"العلمية" يعتبر أمرا منافيا للعقل".
ولم يكتف بول جونسون بانتقاد أفكار كارل ماركس الواردة في مجمل كتبه النظرية، والتي أصبحت مرجعا أساسيا للحركة الشيوعية العالمية، بل قدّمه كشخص"متعجرف وراشح بالازدراء". وكان صوته الحاد الرنان "متناسقا تمام التناسق مع الأحكام العنيفة التي كان يصدرها ويوزّعها على البشر والأشياء بلا توقف".
وكان من عادته أن يقول لكل من يعاديه ويناهض أفكاره:"سوف أمحوك من الوجود". وإمعانا في الحط من قيمته، كتب بول جونسون عن كارل ماركس يقول:"لم يكن له وقت محدّد للنوم أو الاستيقاظ. كان يسهر عادة طوال الليل، ثم يرقد بكامل ثيابه على الأريكة ويظل نائما حتى المساء. لم يكن يزعجه دخول أو خروج الدنيا كلها عليه وهو نائم. لا توجد قطعة أثاث واحدة سليمة أو نظيفة. كل شيء مكسور، ممزّق، رث. طبقات من الغبار تغطي كل شيء والفوضى تعمّ المكان.
في وسط الصالون توجد طاولة كبيرة من طراز قديم عليها مفرش من البلاستيك فوقه مخطوطات وكتب وجرائد وسكاكين ولمبات ومحبرة وكؤوس وغلايين تبغ ورماد. إن صاحب أي محل خردة ليخجل من بيع تلك الأشياء الغريبة".
ولم ينج "انريك ابسن" كاتب المسرحيات الشهيرة والذي أمضى حياته مواصلا تطوير أدواته الفنية بهدف الوصول إلى السمو الفني كما هو الحال عند شكسبير من التجريح والانتقاد. ويقول بول جونسون إنه – أي ابسن – نشأ"ضئيل الحجم، قبيحا. وكانت هناك شائعة تقول إنه طفل غير شرعي لرجل مجهول".
وعندما كبر وأصبح مشهورا ظل ابسن عاجزا عن أن يكون أنيقا. وكان يقضي ساعة كاملة كل صباح محاولا ارتداء ملابسه. غير أن"جميع محاولاته للتأنق منيت بفشل ذريع".
وكان يبدو لمعظم الناس "مثل العاملين على ظهور السفن" وكان له "وجه أسلافه الأحمر الغريب خاصة بعد أن يشرب". ويقول جونسون إن ابسن لم يكن يشرب أثناء الكتابة. غير أنه كان يفعل ذلك في الجلسات والسهرات العامة إذ إن الشراب كان يخلصه من خجله، ويطلق لسانه. لكنه كان أحيانا يبالغ في الشراب.
وعندئذ تصيبه نوبات غضب حادة فيأخذ في التهجم على الآخرين، وسبهم. وهذا ما فعله مع شاب اسكندنافي في روما.

وكان هذا الشاب رساما مريضا بالسل. وقد هاجمه ابسن وهو سكران قائلا:"إنك لا تستحق أن تسير على القدمين. أنت جدير بأن تزحف على أربع!" وعندما انتهت السهرة كان ابسن "عاجزا عن الوقوف".
لذا اضطر الآخرون إلى حمله إلى البيت الذي كان يقيم فيه. وعن علاقة ابسن بزوجته كتب جونسون يقول:"كان ابسن دائما فظ القلب وعنيفا مع زوجته.
ولكنها كانت تعرف كيف تحمي نفسها من غضبه. يثور فتضحك في وجهه ببساطة وهي واثقة من جبنه وخوفه من العنف. كانت في الواقع تلعب على أوتار مخاوفه وتمشط الصحف بحثا عن الأخبار المرعبة والكوارث اليومية التي تنقلها إليه. ولم يكونا زوجين يمكن رؤيتهما وهما في انسجام ووفاق".
ولم يسلم الكاتب العظيم تولستوي من التهجمات القاسية. فقد أشار بول جونسون إلى أن صاحب "أنّا كارينينا" كان مدمنا على لعب القمار كما هو الحال بالنسبة لدستويفسكي. ومرات عديدة سافر إلى أوروبا من أجل هذا الغرض. وفي ضيعات والده كان يطارد بنات الأقنان، ويأخذهن إلى سريره كل ليلة. لذلك سوف يكتب فيما بعد قائلا:"أتذكر الليالي التي قضيتها هناك. أتذكر جمال وشباب "دينا شاه". أتذكر جسدها القوي الممشوق". بل إن تولستوي كان يحب أن يمارس الجنس مع النساء المتزوجات. وعن امرأة متزوجة تدعى "اكسينا" كتب في يومياته عام 1858 يقول:"اليوم.. في الغابة الكبيرة القديمة.. أنا أحمق.. وحش.. جسدها البرونزي وعيناها. أحب كما لم أحب من قبل. لا أفكر في أي شيء آخر".
وفي ما بعد سوف يندم تولستوي على مغامراته الجنسية، وسيكتب قائلا:"الآن سوف أضع لنفسي القاعدة التالية، سوف أعتبر صحبة النساء شرا اجتماعيا لابد منه وأحاول الابتعاد عنهن قدر الإمكان. من في الحقيقة سبب الميل الحسي والعبث والخطايا الأخرى بداخلنا إن لم يكن النساء؟ ومن الملوم لفقداننا صفاتنا الطبيعية من الشجاعة والإخلاص والتعقل والإنصاف إن لم يكن النساء؟". ويقول جونسون إن الشهور الأخيرة من حياة تولستوي كانت "مؤلمة"خاصة بالنسبة لعشاق أدبه. فالرجل الذي بدا من خلال أعماله مدافعا عن القيم الإنسانية النبيلة والسامية، انقلب على نفسه وباتت حياته موسومة بالغيرة والضغينة والانتقام والمكر والخيانة والمزاج السيئ والهستيريا الخسة".
ويقول بول جونسون إن ارنست همنغواي كان يحب الكذب، وكان يتعمّد ذلك غالب الأحيان. وفي قصة له بعنوان:"بيت الجندي" كتب يقول:"من الطبيعي أن يكون أفضل الكتّاب كذّابين. جزء كبير من حرفتهم هو أن يكذبوا.. أن يختلقوا الأكاذيب.. إنهم كثيرا ما يكذبون دون وعي، ثم بعد ذلك يتذكّرون كذبهم بندم شديد". ويقول جونسون إن همنغواي كان يكذب عادة على والديه، ويكذب في كلامه عنهما، وأحيانا لأسباب غير واضحة. ومرة كذب وقال إن أخته "كارول" اغتصبت من أحد الشواذ جنسيا. ثم زعم أنها تزوجت ثم طلقت. بل أعلن ذات مرة أنها ماتت.
والحقيقة كما يقول جونسون أنها كانت "سعيدة في حياتها الزوجية مع زوجها الذي كان همنغواي يكرهه".
ويقول جونسون إن حياة همنغواي التي انتهت بانتحاره ببندقية صيد في الثاني من شهر يوليو/ تموز 1961، كانت"درسا يجب أن يعيه كل المثقفين.. وهو أن الفن وحده لا يكفي!".
وينتقل بول جونسون إلى الشاعر والكاتب المسرحي الشهير برتولد برخت الذي يصفه بـ"صاحب القلب الجليدي" وهو يقدمه لنا على الصورة التالية: "كان "أي برخت" يحب أن يثير بأعماله ضجة ويكشف عن فضائح.
كان يريد أن تثير مسرحياته الهمس وصيحات الاستنكار من جانب الجمهور والتصفيق الحاد من الجانب الآخر. لم يكن يهتم بالنقد المسرحي القائم على التحليل. كان يكره ويحتقر المثقفين التقليديين خاصة ذلك النوع الأكاديمي أو الرومانسي. اخترع "برخت" في الواقع مثقفا من نوع جديد كما فعل "روسو" و"بيرون" في زمانيهما.
نموذج "برخت" الجديد رفيع الثقافة والذي كان هو نفسه نموذجا له، كان فظا غليظ القلب شكاكا. أراد أن يضع على المسرح الجو الخشن والعنيف الموجود في الساحة الرياضية. كان مثل "بيرون" يستمتع بصحبة الملاكمين المحترفين".
ويرى بول جونسون أن فلسفة برخت التي تعتمد على مقولته التالية:"لا تنس أن الفن خداع، وأن الحياة نفسها خدعة" تفضح "أنانية عنيدة". ويضيف قائلا:"كان برخت يتابع أهدافه الأنانية بقسوة منظمة ودم بارد إلى درجة نادرة".
ويستعرض بول جونسون علاقات برخت مع النساء، محاولا أن يثبت أنه كان يستغل مواهبهن لصالحه بل "وجعلهن جميعا في خدمة أغراضه". وبالنسبة إليه كانت النساء "كلهن دجاجات في مزرعة الديك الوحيد بها".
وعن سارتر، كتب بول جونسون يقول:"كان "أي سارتر" مفتونا بالعنف يلعب فيه بقدميه خلف سحابة مربكة من البلاغة اللغوية. كان يقول مثلا: "عندما يواجه الشباب الشرطة فواجبنا ليس فقط أن نظهر أن الشرطة هي العنيفة، بل علينا أن ننضم إلى الشباب في عنفهم المضاد" وأيضا: "إذا لم يشارك المثقف في "العمل المباشر "العنف" نيابة عن السود فإنه يعتبر مسؤولا عن قتلهم تماما كما لو كان يضغط على زناد الشرطة الذي يقتلهم". ويتهجم بول جونسون على فلسفة سارتر الوجودية ويقول إنها "كانت جنونا يستمتع به الناس".
الشيء الأساسي الذي يمكننا أن نلاحظه في كتابه هو أن بول جونسون اختار مثقفين علمانيين كبارا عرفوا بدفاعهم المستميت عن الحرية وعن القضايا العادلة. ومنهم من دفع الثمن غاليا في سبيل ذلك.
ولعله أراد من خلال التركيز على عيوبهم واتهامهم بـ"الكذب والشعوذة والجنون والأنانية" الحط من قيمتهم وإثارة مشاعر الاحتقار والكراهية تجاههم والتشكيك في شهرتهم. لكن هل نجح في مسعاه؟ ذلك هو السؤال الذي يتحتم على كل قارئ لهذا الكتاب الإجابة عنه.


تفاصيل الموضوع →

الخميس، 27 مايو 2010

قراءة في رواية شجرة المسرّات


شجرة المسـرّات " سيرة ابن فضلان السرّية " للروائي محمد الأسعد صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004.. هي سيرة تجربة صوفية تجاوزت تجارب الحلاج والبسطامي وابن عربي .. تتكون من تسعة عشر فصلا ً يحمل كل فصل عنوانا ً مستقلا ً .. تعتبر الرواية ذات تقنية أبداعية عالية وتجريب روائي منطلق الآفاق .. رواية من نوع جديد يلتقي فيها الشعر بالسرد وبالواقعية التاريخية والإسقاط الزماني والمكاني ...

بقلم/ توفيق الشيخ حسين
نقلا عن/ دنيا الرأي

مضى على صدور الرواية ستة أعوام ولم تجد الاهتمام النقدي والأكاديمي التي تستحق مثلها مثل الرحالة " أحمد ابن فضلان " .. لم يعرف عند العرب بصورة أوسع ولم يأخذ حظا ً كبيرا ً في المؤلفات العربية.. إنه معروف على نطاق ضيق في الأوساط العربية وعلى رغم من ذلك فإن رحلته هذه اكتسبت أهمية كبرى في الثقافة الغربية وأشتهر في أوروبا أكثر من أي رحالة عربي آخر.. فرسالته المعروفة باسم " رسالة ابن فضلان " تـُرجمت إلى لغات أوربية عديدة مثل "الانجليزية والألمانية والروسية والسويدية والفرنسية وغيرها" وتناولها في البحث والتقصي أكثر من باحث في أكثر من بلد في البلدان الأوربية ...
يقول " آدم يوسف ":
" إن المفارقة التاريخية تبدو عميقة ومذهلة حين يتعلق الأمر بشخصيات من القرن العاشر الميلادي تعيش بيننا, وتقول الكلام الذي نخشى أن نقوله"...
هي سيرة " أحمد بن العباس ابن رشيد ابن حماد ابن فضلان " عالم أسلامي وأديب وشاعر من القرن العاشر الميلادي كتب ووصف رحلته كعضو في سفارة الخليفة العباسي " المقتدر بالله " إلى ملك الصقالبة ( بلغار الفولجا ) ...استغرقت رحلة أبن فضلان ثلاث سنوات عبر فضاءات جغرافية من بغداد إلى إيران فأواسط آسيا فبلاد بلغار الفولجا أو أرض الصقالبة إلى الأراضي الروسية واسكندنافيا والخزر .. وعندما عاد إلى بغداد قام بتسجيل وقائع رحلة السنوات الثلاث باسم "رسالة ابن فضلان".. وقد سجل أحداث الرحلة ومشاهدها من بلاد وآماكن وأنهار في وصف بارع يضعه في الصف الأول من الرحالة الجغرافيين الأدباء.. فجمع بذلك بين فن الرحلات والجغرافيا والطبيعة ...
يبدأ "الأسعد" في سرد المسـرّة والتعرف على أصل ابن العلوي من ضمن عدة حكايات كونه ملازم ّ لأبن فضلان.. تتحدث المخطوطة والناس والباحثون والراوية عن تحولات روحية آلمت بأحمد بن فضلان بتأثير حياته في بغداد العباسية في فترة شهدت ذروة ازدهارا لحضارة العربية – الإسلامية كما شهدت بداية الانحدار الحضاري في الوقت نفسه" ...
تبدأ من كونه راهب بوذي جاء مبعوثا من الهند والسند وأكثر ما أدهش الناس إنهم رأوه يحضر الصلاة في المساجد, وحلقات العلماء .. أو نبطيا من مدينة عين التمر أو سافانا الآرامية القديمة لإجادته العربية وارتدائه اللباس العربي وسمرته ذات الأصل الصحراوي الذي سفعته الشمس...
في عصر نقلت فيه الجن الناس إلى ما وراء جبل قاف.. أو من بغداد ذاتها ومن باب الطاق تحديدا ً ..
ويحـل ّ " الأسعد " لغز الغموض وموضع الشك حين وصلت إلى معهد اللغات الشرقية في " بطرسبرغ " مخطوطة شعرية تضمنت أرجوزة تروي حكاية شاب أطلقه إلى السفر لغز ٌ في نبوءة , مما جعل " كراتشكوفسكي " بكشف سـر ّ هذه الشخصية في رسالة المسـرّة بالتعرف على عرافة موهوبة بقراءة الطالع ومعرفة الكواكب تطلبه أو تطلب رأسه .. فيسألها النجاة , فتجيب وصوتها يكتسب رقة الماء نعومة حتى لم يعد يـُسمع له جرس ّ بل صلصلة نائية:
"إذهب غريبا ً إلى حيث لا تكون أرض ٌ, ولا يكون بحر ٌ, وحيث لا يكون ليل, ولا يكون نهار " .
وفي كل ذلك يظل ابن العلوي يقظا ً دائما ً يحاذر أن تدخل أشباحه من البوابات.. بوابات أحلامه وخيامه وأساطير حياته التي بدأ يعيشها بصحبة معلمه..
وحين تنتاب ابن فضلان لحظات تتبدل فيها أحواله وتتساقط الأفكار مثلما تتساقط الأوراق عن شجرة , ولا يبقى إلا نسغها ليعيد الحياة مجددا ً ويبث الحيوية في كلماته ..
من يعرف من أين تأتي الأفكـار؟
بعضهم يقول من مدن الماضي وطرقاتها المتقاطعة في أعماقنا, بعضهم يقول من موانئ مشغولة لم نهبط فيها بعد , وبعضهم يقول من رنين الكلمات حين تتجاور وتتداخل , بعض يقول من قراءة العلامات , لكن أبن فضلان يقول إنها تأتي من الصحراء ومن صحراء الحجارة تحديدا ً...
ابن فضلان عانى تجربته وأبرز ما فيه الرؤيا المزدوجة لعالم العقل الإنساني وعالم ما فوق العقل " الظاهر والباطن " أو لعالم الأبعاد المتوسطة, وعالم الأبعاد العليا, وهي الازدواجية نفسها التي عكستها الأحداث " فصل أساتذة بطرسبرغ "
هل فقدت الطبيعة عقلها ؟
لم تكن الطبيعة هي التي فقدت عقلها في ذهن الشيخ عيـّاد الزهراوي وهو يقطع شارع " نيفسكي " في بطرسبرغ بخطوات واسعة لأن الطبيعة لم تكن أمام بصره, ولا في ذهنه , منذ أن غادر سهولها وجبالها الموحشة بل وحتى سماواتها الصامتة قبل ثمانمائة عام , واستقر معلما في حلقات المساجد وناسخا ً للمخطوطات وجامعا ً للأمثال والطرائف ونوادر المجـّان ومصححا ً للأخبار أو مفسرا ً لها ...أن التأريخ هو الذي فقد عقله في نظر الشيخ وليس الطبيعة , المكتوب لا الملموس , معاني الكلمات لا دلالاتها , التأريخ بأحداثه ومجراه المألوف , ومعه يومياته واهتماماته, وكأن القائم حوله عيـان ّ لا يراه ولا يصغي إليه , أو هو لا يستطيع مخاطبته لسبب ٍ ما.
علينا التقدم بروّية ٍ إذا أردنا لحكايتنا أن تحكى بسرعة , وعلينا الانتظار, لأن الطرائد تأتي بسرعة إلى الصياد كما تقول الأمثال الروسية ...
لقد رصد ابن فضلان الواقع بكل ما فيه من محاسن ومساوئ وقد صدمه كثير من المشاهد , ويحكي ما يروي بصراحة وبأسلوب مشوق واضح لا مجال للخيال عنده..
لعل طموح ابن فضلان كان يؤجـّجه هذا الحدس ُ بوجود صورة ٍ مختلفة للتفكير والحياة , نعرفها إذا خرجنا على الخط المستقيم , ووحدانية إما هذا أو ذاك , فقال بالتجاور والتماكن والتزامن, فانبثق من كل هذا معنى جديدّ للوجود في نفسه وفي ما حوله , بل ومعنى جديد ّ للموت والحياة , للألم والمسرّة, للأسى والبهجة , كأن الوجود معه تحـّول َ إلى شجرة ِ مسرّات .
يقول الكاتب " ياسين النصير " :
" مخطوطة ابن فضلان, أعني سيرته هي جمع لثقافة انتشرت وعم انتشارها الحقول فنبتت هنا وهناك في التاريخ وفي الجغرافية , في كتب الفلاسفة وفي قصائد الشعراء, ولأنها سيرة, والسيرة ليست طريقة سرد نقية دائما تداخل الشعر فيها بالحكي وتداخلت الفصحى بعامية التدوين , وأصبح لكل النصوص موسيقى الرصد والمتابعة وثمة حزن ينمو داخل السياق وكأنه يغمرنا في معنى التلاشي في ما كان ابن فضلان قد كتبه , هذا التلاشي الذي تجسد في تكرار الرواية والسرد جعل المخطوطة وما فيها موزعة على الأمصار والمدن والخرائط كما لو كان جسدا ً هندوسيا ً قد احرق بعد موته ووزع ترابه على كل الأنهار " ..
الصمت هو الذي بدأ يتخلل الكلمات, أو أن الكلمات هي التي بدأت تغور فيه مثلما تغور النجوم في الليل الحي ّ , فلا تطفو سوى الظلال , ظلال ما كان وما سيكون ..
وأخيرا ً يؤكد " الأسعد " بفضل الرحلة في تدوين اكتشافات حضارية نادرة ..ويسطرّ ون اسم أبن فضلان بحروف بارزة في تاريخ التواصل الحضاري واعتبارها نقلة نوعية في فن كتابة الرحلة العربية التي كانت غارقة في مفاهيم السرد فنقلها إلى مستوى التحليل الأثنوغرافي لشعوب وقبائل لم يكن العرب يعرفون عنها شيئا ً .. بل لم يكن العالم يعرف عنها شيئا...


تفاصيل الموضوع →

 

ضع اداة هنا

.

ضع اداة هنا

.

ضع اداة هنا

.

ضع اداة هنا

.